أحسن القصص
قصص القرآن الكريم أحسن القصص ، وأجمله ، وأعذبه ، وأصدقه ، وأبلغه ، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : “ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ” ، “ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا “ ، “ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا “.
وليس قصص القرآن الكريم للتسلية ، أو لمجرد التسرية عن نبينا (صلى الله عليه وسلم) ، إنما هو للعبرة والعظة ، يقول الحق سبحانه : “ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ “ ، وكثيرًا ما عُقب على قصص القرآن بما يفيد ضرورة التنبه لمواطن العبرة والاتعاظ من نحو قوله تعالى : “ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ، “ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى “ ، “ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ” ، “ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ” ، “ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ “.
وسنبدأ بالحديث عن قصة سيدنا يوسف (عليه السلام) ، كونها القصة الوحيدة التي أفردت لها سورة كاملة من مبداها إلى منتهاها ، وجاءت أحداثها مكتملة مجتمعة في سورة واحدة ، سميت باسم نبي الله يوسف (عليه السلام) ، الذي قال عنه نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ” ، عليهم جميعًا وعلى نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) أزكى الصلوات وأتم التسليم ، وكانت العرب تطلق على من يتصل الكرم وعراقة النسب في ثلاثة من آبائه وأجداده “المعرق” أي عريق النسب والفضل .
وقد قال بعض أهل العلم إن سورة يوسف (عليه السلام) لا يقرؤها محزون إلا استراح ، وقال بعضهم : سورة يوسف ومريم (عليهما السلام) مما يتفكه به أهل الجنة في الجنة.
وفيها يقول الحق سبحانه : “لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ” .
وهنا نتعلم أهمية سلامة الصدر من الأحقاد والأحساد ، فسلامة الصدر راحة لصاحبها في الدنيا ومنجاة له في الآخرة ، يقول الحق سبحانه : “ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ “ ، فالأمر كله لله يعز من يشاء ، ويذل من يشاء، ويهب ما يشاء لمن يشاء وقتما يشاء ، وله الأمر كله ، فمن سلّم له بحكمته في كونه فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ، فلا تنازعه في سلطانه ، ولا تعترض عليه في منعه أو عطائه .
ذلك أن إخوة يوسف (عليه السلام) نقموا عليه حب أبيه له ، فعملوا على التخلص منه بأي طريقة تبعده عن وجه أبيهم ، غيرأن وجه أبيهم لم يخل لهم ، إذ إن ما عند الله (عز وجل) لا ينال بمعصيته إنما ينال بطاعته والتسليم لأمره وقضائه وحكمته .
وبالفعل كادوا لأخيهم وألقوه في غيابة الجب ، وعادوا إلى أبيهم ، يقولون : إن ابنك أكله الذئب ، وجاءوا على قميصه بدم كذب ، فقال والدهم يعقوب (عليه السلام) : “ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ” (يوسف : 18) قائلا لهم : ما أحلم هذا الذئب الذي أكل يوسف دون أن يمزق قميصه ، كذبتم لو أكله الذئب لمزق القميص ، ولما عادوا إليه من أرض مصر الذين كانوا قد خرجوا إليها طلبًا للميرة ، وكان ما كان بين يوسف (عليه السلام) وإخوته ، وتمكن يوسف من ضم أخيه إليه ، وعاد إخوة يوسف عدا أخاه بنيامين يقولون : “ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ” (يوسف : 81) أجابهم بقوله الذي حكاه القرآن الكريم على لسانه : “َ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ* قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ” (يوسف : 83-87) .
ويبلغ يوسف عليه السلام ما أصاب والده من الضر حزنًا عليه ، فيقول لإخوته : “ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ “(يوسف : 93).
وما أن تجاوز إخوة يوسف أرض مصر في طريق عودتهم إلى أبيهم حتى وجد أبوهم ريح يوسف تهب عليه نسيمًا عليلاً ، قال : “ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ” (يوسف : 94) ، وما أن ألقى البشير القميص على يعقوب حتى ارتد (عليه السلام) بصيرًا , وعلى الفور اصطحب أبناءه للقاء الحبيب يوسف , وكان يوسف عند حسن ظن والده في البر والوفاء , حيث يقول الحق سبحانه : “ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوامِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ” (يوسف : 99-100) , قدمها على سرير الملك , وأخذ يوسف (عليه السلام) يحدث بنعم الله عليه : “يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَارَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَالْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌلِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ” (يوسف : 100) .
ثم يواصل شكر النعم وتعدادها : “ رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِوَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّيفِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ” (يوسف : 101) , مختتمًا حديثه بتلك الجملة التي تعبر عن عظمة وتواضع الأنبياء : “ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا” طلبًا لحسن الخاتمة , وخوفًا من تبدلها , “ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ” فإذا كان هذا حال أنبياء الله ورسله وحال الصالحين من بعدهم , على حد قول الإمام الشافعي (رحمه الله) :
أُحِبُّ الصالِحينَ وَلَسـتُ مِنهُـــم |
لَعَلّــي أَن أَنــــالَ بِهِـــم شَفاعَـــة |
وَأَكــرَهُ مَـــن تِجارَتُــهُ المَعاصي |
وَلَــو كُنّـــا سَواءً فـــي البِضاعَـــة |
فأجدر بنا جميعًا أن نحرص على حسن الخاتمة ونعمل لله ونسأل الله إياها , وأن نكون على أمل وحذر دائمين متكاملين لا ينفك أحدهما عن الآخر , أمل في الله دائم , وحذر من تبدل الأحوال إذا حدنا عن شكر النعم أو نسينا المنعم.